في عام 1991 شاهد ملايين الأمريكيين الإعلان التشويقي لفيلم ريدلي سكوت الجديد «Thelma & Louise».
يقدم الإعلان على وقع نغمات كوميدية راقصة اسمي البطلتين ثيلما ولويز … صديقتان تتجهزان للذهاب في رحلة صيد، رحلة ستتحول عبر لقطات التريلر السريعة إلى مغامرة راقصة تارة، وايروتيكية تارة، بمشاهد حميمية خاطفة للأنفاس لبراد بيت وجينا دايفيس، تبدو وعود الإعلان حاضرة لمتلقيها، يعدهم بمغامرة كوميدية ستأخذ منعطفاً رومانسياً ساخناً، بينما يؤطر الأمر بأكمله مطاردة هزلية من الشرطة، وينتهي الإعلان التشويقي بعبارة تطمئن المتلقين بوعود النهاية السعيدة، عبارة ستحيا طويلاً في ذاكرة الأمريكيين: «سنشرب المارجريتا على شاطئ البحر، ماماسيتا!»
سيتذكر كل من شاهد الفيلم هذا التريلر التشويقي الخاطف؛ لأنه يمثل واحدة من أكبر الخدع الدعائية في العروض السينمائية، لم يكن «Thelma & Louise» فيلماً هزلياً أو رومانسياً، كان صرخة أنثوية غاضبة لا يزال صداها يتردد حتى الآن، فيلماً معقداً بمضمون أكثر ثقلاً من عرضه الدعائي، فيلماً يمثل لحظة مفصلية في تمثيل المرأة بالسينما الأمريكية، لحظة لها محبوها وكارهوها.
فيلم لم ينتهِ بفتاتين تشربان المارجريتا على الشاطئ كما وعد التريلر، إنما فتاتان تقودان ثورة انتحارية ضد عالم ذكوري قتلهما ألف مرة قبل أن يقررا كتابة نهايتهما الخاصة والمفتوحة للأبد لتأويلات لا تنتهي.
لم تبدأ فكرة «Thelma & Louise» من داخل استوديوهات MGM العريقة التي سخرت لأجل الفيلم ميزانية مليونية، أو حتى من مكتب المخرج الشهير ريدلي سكوت، إنما بدأت من ورقة صغيرة في شركة منسية!
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وخلال ساعات عملها المزدحمة كمساعدة في شركة إعلانات بلوس أنجلوس، كتبت الموظفة كالي خوري على ملصق صغير جملة لم تتخطَّ خمس كلمات: «امرأتان تتورطان في فورة جرائم».
عندما عادت كالي إلى منزلها كتبت من رحم تلك العبارة سيناريو كاملاً بخط اليد، ثم أعادت طبعه في شركتها، على ورق السيناريو ستظهر فتيات يغادرن المدينة الآمنة في رحلة على الطريق، فتيات يتورطن في القتل والجريمة والثورة، يتحررن من كل القواعد ليصرن خارجات عن القانون منذ اللحظات الأولى.
في كتابها «Off the Cliff» تقول بيكي إيكمان: «إن السيناريو كان ثورياً، رغم أن أحداثه ليست جديدة، السينما جسدت مراراً رحلة طريق تنتهي بشكل كارثي ويصير أبطالها خارجين عن القانون، تلك هي حبكة كل أفلام الويسترن تقريباً، لكن الجديد أن الأبطال في «Thelma & Louise» ليسوا رجالاً إنما نساء عاديات، نادلة وربة منزل تشبهان كل سيدات الطبقة الوسطى الأمريكية. بطلات سيناريو كالي لم يحتجن سوى دفعة صغيرة حتى يقمن بكل ما يستنكر المجتمع أن تقترب النساء من فعله، يمارسن كل العنف الذي يحتكره الرجال وحسب ويصيرون ممجدين عبره».
منحت طزاجة الفكرة وثوريتها الضوء الأخضر لتنفيذها، ورغم شهرة المخرج وطاقم العمل وشركة الإنتاج، احتاج الأمر لتمريره بخفة إلى المتلقين عبر عرض تشويقي خادع يعد بالمعتاد، ثم يورط المشاهد داخل قاعة السينما في مغامرة لن ينساها أبداً.
يبدأ الفيلم بمكالمة النادلة لويز لصديقتها ثيلما، مكالمة بين فتاتين من أركنساس تخططان لرحلة نحو كوخ بالتلال. تبدو الرحلة حدثاً عادياً، لكن تكمن صعوبته في مراوغة ثيلما لنيل موافقة زوجها داريل.
لا يقدم الفيلم من البداية شخصيات ثورية أو نسوية، إنما سيدتان عاديتان تنتميان لمجتمعهما الذي يطبع تصرفاتهما بانحيازاته ومشاكله، توبخ النادلة لويز فتاتين تدخنان علناً في المطعم، وتخبرهما أن التدخين لا يناسب فتيات في عمرهما، وسيقلل شهوتهما الجنسية مستقبلاً، ثم تدخن لويز خلسة في المشهد التالي في المطبخ وهي تخطط سراً رحلتها مع صديقتها كفعل متمرد أقل علانية مما فعلته الفتاتان بالمطعم.
مشهد من فيلم «Thelma & Louise»
تظهر ثيلما كامرأة تمتلك النفاق نفسه بين ظاهر سلوكها وباطن أفعالها، تقوم بالتودد الكاذب لزوج متسلط يبدأ يومه بقمعها وأمرها بخفض صوتها، تنسلخ ثيلما بتردد من وعدها بمفاتحة زوجها بشأن الرحلة وتقرر المغادرة خلسة بدلاً من مواجهته بنضج.
تنطلق ثيلما ولويز في رحلة مختلسة تراوغ قوانين مجتمعهما أملاً في التقاط لحظات خاطفة من الحرية.
تقدم مشاهد الإعداد للرحلة بخفة الفروق بين شخصيتي لويز وثيلما، والتي ستحكم إيقاع الحكاية ومسارها للنهاية.
لويز هي الفتاة الألفا الأكبر سناً والأكثر خبرة بالحياة، والتي لا تحتاج لأجل الرحلة إلا سيارتها، لا يمنحها عملها مكانة اجتماعية كبيرة، ولكن بتعبير إحدى الشخصيات بالفيلم: «عملك كنادلة يجعلك خبيرة بما يكفي بالطبيعة البشرية والعالم».
بينما ثيلما هي الفتاة الساذجة التي ارتبطت بزوجها وهي في عمر الثامنة عشرة، ولم تعرف رجلاً سواه، لذلك تمثل لها رحلة نحو التلال جموحاً مبالغاً نحو المجهول تحتاج معه لجلب مسدس زوجها لتواجه به الأفاعي والقتلة والأشرار الرابضين في انتظارهما على جانبي الطريق، وكذلك جلب مصابيح إضافية لكشف المتسللين قبل اقترابهم.
جينا ديفيس وسوزان سارندون من فيلم «Thelma & Louise»
تحاول الفتاتان في الرحلة مبادلة شخصياتهما، تتحرر لويز قليلاً من دورها الحامي وثقل مسئولياتها كسيدة وحيدة تعول نفسها، بينما تحاول ثيلما أن تتظاهر بخبرة لا تملكها، تخطف السيجارة من فم لويز وتقلدها وهي تدخنها، مخبرة إياها أنها تريد أن تكون للحظات قوية مثلها.
لا يحضر الخطر في رحلة ثيلما ولويز في صورة قاتل متسلسل أو متطفل غريب يرتدي قناعاً مخيفاً مثل أفلام الرعب التجارية التي سادت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لكن يحضر في صورة رجل وسيم لطيف يطلب مراقصة ثيلما في حانة.
يتحول التعارف إلى ملاطفة سريعة، وتنتهي برجل يرفض أن تقول امرأة له لا وهو يخلع لباسها الداخلي بالقوة في ساحة انتظار السيارات، لا تفلح صفقة تبادل الأدوار بين ثيلما ولويز، تعود ثيلما سريعاً إلى سجيتها كفتاة ساذجة بين براثن مغتصب وتأتي لويز الحامية لإنقاذها بمسدس.
ينتهي الموقف سريعاً دون خسائر، لكن لا يبدي المغتصب ندماً أمام فوهة المسدس، يشبع الفتاتين بعبارات ازدراء وينعتهما بالعاهرات، تنظر له لويز ثم تطلق النار بلا تردد.
لا يناسب القتل امرأة تعمل نادلة، لا يناسب القتل امرأة تدرك قوانين مجتمعها وتنافقه بما يكفي كي لا يطلق أحكامه عليها، لا يناسب القتل امرأة نالت العفو للتو من رجل غاضب، تمسح لويز رذاذ الدم عن وجهها وهي تنظر لنفسها في مرآة دورة مياه كأنها تنظر لامرأة اخرى استحوذت عليها في لحظات وجعلتها قاتلة.
بينما يمكن لبطل الكاوبوي أن يقتل عشرة رجال في حانة بمشهد البداية بأفلام الويسترن لإثبات تفوقه ومهارته، بينما يصعب أن تقوم امرأة في بداية حكاية سينمائية خفيفة بالفعل نفسه.
تدرك لويز أن أحداً لن يصدق حكاية امرأتين ساذجتين قررتا اختبار الحرية مرة، وتعرضتا لمغتصب على قارعة الطريق، مهما امتلكت ثيلما ندوباً وسحجات تثبت تعرضها للإكراه، لن يتذكر أحد سوى سكيرتين تستمتعان بالرقص في حانة على بعد آلاف الأميال من المنزل. مواصفات تناسب العاهرات، كما نعتهما المغتصب، أضعاف ما تثبت براءتهما.
يؤطر ريدلي سكوت بعبقرية كادرات الطريق في رحلة الهروب الليلية لتبدو أكثر ضيقاً ورعباً من كادرات الرحلة النهارية في بدايتها، تحيطهما تلال مقبضة يغشاها الظلام، بينما تبدو ثيلما ولويز مثل فريستين صغيرتين لوحوش غير منظورة.
مشهد في فيلم «Thelma & Louise»
تظهر أضواء المدينة في الخلف بينما السيارة توليها ظهرها وتفر بعيداً، مثل أضواء حلم أمريكي لا تأمن النساء سكناه، وبينما يخطط آلاف البشر سنوياً لتجاوز الحدود نحو الجنة الأمريكية، تيمم الفتاتان وجهيهما بشكل عكسي شطر حدود المكسيك، بحثاً عن حياة جديدة في عالم آخر أكثر أماناً رغم جباله وصحرائه الموحشة.
«عندما تفجرين رأس رجل يغتصبك، تصير تكساس آخر مكان على الأرض يمكنك الذهاب إليه».
- Thelma & Louise
لا تحضر الشخصيات الذكورية في «Thelma & Louise» إلا في أدوار مساعدة تؤطر بعوارها كل العيوب الرجولية التي خلقت البطلتين على تلك الصورة.
عندما تطلب لويز المساعدة من حبيبها القديم جيمي، يتردد في التزامه أو تعبيره لها عن الحب، لكنه يحضر سريعاً لكونه يشك في أن حبيبته فرت مع رجل آخر، تدرك لويز أن ما أحضر حبيبها لم يكن عاطفته إنما كبرياء ذكوري يستنكر أن تفر حبيبته مع محب سواه. لا نعرف الكثير عن ماضي علاقتهما، لكن ندرك من سرعة غضب جيمي أن انفعالاته وإساءاته كانت سبباً لنهاية العلاقة سابقاً.
بينما على الناحية الأخرى، لا يمنح الزوج داريل لثيلما فرصة كافية لشرح نفسها، يوبخها حتى تغلق الهاتف في وجهه، ثم يسأل الشرطة التي أرادت مراقبة هاتفه بحثاً عن فتاتين هاربتين من جريمة قتل، ما إذا كانت تلك المراقبة ستكلفه مالاً، لا يغضب داريل لفرار زوجته إلا كما يغضب رجل لأجل ملكية له تصرفت على غير ما يهوى وجلبت عليه تكاليفَ مضاعفة.
تظهر الشخصية الذكورية الثالثة أو المحقق هال كرجل متعاطف، يدرك أن المجتمع الأمريكي لا يفرز أبداً امرأة غير مدجنة، غير خاضعة لقوانين الرجال، خاصة لو كانت امرأة بسيطة مثل نادلة أو ربة منزل، لذلك يوقن أن ما حرك ثيلما ولويز لهذه المغامرة الجنونية لم يكن سوى إكراه سيئ ظهر لهما على جانب الطريق.
يمنحنا المحقق إطلالة ذكية على عالم الفتاتين عندما يزور منزليهما في غيابهما، يبدو منزل ثيلما مثل منزل فتاة صغيرة تحاول أن تجعل بيتها مهندماً، لكنه ترتيب هش بمسحة طفولية يفسده زوجها - الذي تصفه بأنه طفل لم ينضج - بمجرد حضوره.
بينما يبدو منزل لويز الأنيق في عين المحقق مثل لغز، تظهر لويز في صور قديمة على الأرفف مع حبيبها، صور قديمة بزي التشجيع والدراسة، صور تبدو فيها كفتاة واعدة، لم يكن لينتهي بها الأمر أبداً لأن تعمل نادلة.
خلال الرحلة تصر لويز على السفر من طريق طويل مراوغ بدلاً من قطع طريق الولايات مباشرة نحو الجنوب، تتخذ لويز القرار بصورة عاطفية لا تناسب شخصيتها الأكثر حرصاً، تراوغ في طريق هروبها لتتفادى ذكرى مروعة تعرضت لها في تكساس.
لم تفصح لويز ولن يفصح الفيلم أبداً عما تعرضت له الشخصية في تكساس، ندرك بالتخمين أن لويز تعرضت للاغتصاب هناك، تجربة مروعة شكلت شخصيتها الحريصة المراوغة، تجربة دمرت تلك الفتاة الواعدة التي رأى المحقق صورها المؤطرة في منزلها، تجربة ظلت كامنة بداخلها مثل دائرة لم يتحقق اكتمالها إلا عندما أفرغت رصاصة في صدر مغتصب صديقتها ثيلما.
مشهد من فيلم «ثيلما ولويز»
ندرك أن فعل القتل لم يكن لحظة جنون إنما غضباً مختزناً رسم مسار شخصية لويز للأبد بقمعه ثم أفصح عن نفسه في لحظة هشة، بعدما ضحت لويز بكل مسارات حياتها كاملة لتختبئ في وظيفة آمنة من العالم، يأتي مغتصب لينعتها بالعاهرة في النهاية ويدفع مأساتها الشخصية بقوة للسطح فترد برصاصة.
في طيف من فعلها لم ترد لويز أن تحيا ثيلما قصتها مجدداً، وأن تملي حادثة الاغتصاب تلك التي لن يصدقها أحد خطوط حياتها القادمة.
في وثائقي بعنوان «Catching Sight Of Thelma & Louise» تسترجع المخرجة جينيفر تاونزلاند استبيانات ملأتها نساء خلال سنة عرض الفيلم، مئات النساء كتبن في الاستبيان أن هناك الكثير من الفتيات مثل ثيلما ولويز، اكتفين بتلك الإشارة دون أن يسردن التجارب التي حدثت لهن.
تتحول تكساس من سر سينمائي لم يفصح عن نفسه أبداً إلى سر يسع جميع الفتيات اللاتي شاهدن الفيلم، سر يسع جميع الحكايات التي لم تروَ لأن فتياتها أخبرن أنفسهن أن أحداً لن يصدق أبداً، لم تفصح لويز عن سرها حتى النهاية وتركته لمخيلة كل متلقٍ.
خاطبت تلك المجهولية جميع الفتيات، لتجد كل فتاة نفسها في سيارة ثيلما ولويز، يقررن الفرار نحو أرض جديدة دون مرور بالماضي المروع الذي يسكن تكساس. التي تحولت من ثاني أكبر ولاية بالحلم الأمريكي لمجاز جغرافي عن ذكريات الاغتصاب والانتهاك المسكوت عنها في نفوس آلاف الأمريكيات.
خلال رحلة الهروب تقابل الفتاتان دي جي، فتًى أفَّاق يسافر تطفلاً، لكنه يبدو بقبعة الكاوبوي مثل بطل خيالي قادم من عالم الحكايات لخيال ثيلما الساذج، بطل أكثر نبلاً وأناقة من الرجل الذي حاول اغتصابها. يخبر الفتى ثيلما بلا مواربة أنه لص، يفصل لها طريقته الكوميدية في السطو على المتاجر، يكشف أوراقه كاملة، بينما لا تلتفت ثيلما لكل ذلك، وتمارس معه الحب.
بينما يمثل الجنس دوماً أداة استعراض سينمائية لفحولة البطل بدءاً من أفلام الكاوبوي القديمة وصولاً للبطل جيمس بوند الذي يضاجع معظم النساء في أفلامه، يمثل الجنس وخاصة خارج إطار الزواج أداة لاستعراض رعونة الأنثى واستحقاقها لنعوت مثل العاهرة.
تمارس ثيلما الحب في نزل رخيص مع دي جي، يؤطر الإخراج المشهد لتبدو معه كفتاة تمارس الجنس لأول مرة، شغف حميمي يفضح حياة مملة وباردة عاشتها ثيلما سابقاً مع زوج رتيب لم يقدم المتعة لزوجته أبداً كاستحقاق.
خلال كل محاولات ثيلما ولويز للهروب والتمرد، تستعيران كل أساليب العنف الذكوري، بدءاً من حمل السلاح في نزهة، وصولاً للتخطيط لهروب ملحمي نحو أرض بكر موحشة مثل كاوبوي أمريكي مطلوب للعدالة.
عندما يسرق دي جي مدخرات الهروب، تستعير ثيلما ما رواه لها وتقوم بالسطو على متجر بالطريقة الرجولية نفسها لتوفير أموال كافية لاستئناف خطة الهروب.
يبدو تمرد ثيلما ولويز تحويلياً بالكامل على المستوى النفسي، للهروب من مجتمع ذكوري لا تحتاجان أن تتصرفا كهاربات فحسب، إنما هارباتان تشقان طريقهما بالتحول نحو العنف الذكوري نفسه كأداة وحيدة لمقاومة السلطات والفرار منها.
يخلق هذا التحويل عنصر الكوميديا السوداء بالفيلم، عندما تحبسان شرطي مرور في حقيبة سيارته بعد تجريده من سلاحه، تعتذر له ثيلما بلطف أنثوي وهي تخبره أن الأمر بدأ بزوج لم يحبها لذلك عليه معاملة زوجته بشكل ألطف. وأنه لو قابلهما من ثلاث ليالٍ كان سيجد نساءً لطيفات يرتعدن لرؤية شرطي على الطريق.
وبينما تطارد رحلتهما طوال الوقت شاحنة عملاقة لرجل بذيء يستهدفهما بإشاراته جنسية، لا تتوقف الفتاتان للانتقام من الرجل بالقتل، إنما تفجران بالرصاصات شاحنته ليتحول الرجل المخيف إلى طفل غاضب بعد تحطيم أداة تفوقه الذكوري التي تشبه القضيب المنتصب.
لا تمارس ثيلما ولويز العنف الذكوري إلا من منطلق استكشافي، ولا تجدانه في الممارسة إلا فعلاً طفولياً لا يناسبهما، لكنه يمنحهما لذة رؤية رجال يمثلون السلطة يتحولون في لحظات إلى أطفال خاضعة على وشك البكاء مثل الشرطي الذي بكى مرتجفاً في صندوق سيارته في انتظار النجدة.
في هذا الجزء من الرحلة يفقد العالم حولهما خطورته، تظهر الشخصيات بأريحية مطمئنة رغم كادر السيارة الضيق الذي أطر ذعرهما سابقاً، تصير البطلتان فاعلتين مثل شخصيات أدركت أخيراً كيف تتسيد مصيرها.
«- هل وجدت نداءك، ثيلما؟
- نعم … نداء البرية، نداء الحرية.»
- Thelma & Louise
عندما يعرض المحقق هال صفقة قانونية على لويز، ترفض ثيلما وتخبرها أنها لن تستطيع العودة بعد كل ما مرت به لشخصيتها وحياتها القديمة.
تبدو العودة للمدينة الأمريكية مثل العودة لاعتناق الشخصيات القديمة التي ستعرضهما مجدداً للإساءة والتعنيف، إما من الزوج بالمنزل أو الغرباء بالخارج، لم يعد ممكناً بعد اختبار الحرية وحرق المراكب بأكملها العودة سباحة لبقعة الغرق نفسها التي بدأت منها الحكاية.
تدرك لويز أن محققاً واحداً متعاطفاً لن يكفي لتصديق روايتهما، وأن الأمر يتعلق بنظام قانوني واجتماعي وثقافي كامل يجب أن يتم تثويره لتصير الولايات المتحدة مكاناً آمناً للنساء.
تقف الفتاتان بالسيارة أمام حافة الأخدود العظيم، بينما تظهر السلطة خلفهما في كامل عنفوانها، سيارات الشرطة والطائرات والقناصة، في مطاردة نجح ريدلي سكوت في تصويرها ببراعة كعملية اصطياد لجيش معادٍ وليس فقط امرأتين قامتا برحلة أشبه بالمانيفستو ضد قانون لا يصدق إلا رواية واحدة.
في لحظات الاعتراف الأخيرة تخبر ثيلما صديقتها لويز أنها سعيدة لخوض تلك الرحلة، وأنها لم تشعر بالحياة أبداً إلا على طريق الهروب.
تضغط لويز دواسة الوقود لينتهي الفيلم بسيارة تطير في الهواء في حالة تحرر كامل بأبطالها، يتجمد الكادر والسيارة تعانق السماء لتصير النهاية انعتاقاً لا يفسده سقوط حر.
لقطات من فيلم «ثيلما ولويز»
بنهاية الفيلم أدرك كل متفرج وناقد أمريكي أن الفيلم لم يشبه عرضه التشويقي أبداً، كان يمكن للفيلم أن ينتهي نهاية سعيدة، وأن تعقد الفتاتان صفقة قانونية أو تنصاعا للسلطة أملاً في الخروج من السجن بعد سنوات، ولكن أصرت الفتاتان على إكمال رحلتهما حتى لو فارقت العجلات الأسفلت نحو السماء.
فيما بعد سينال الفيلم تمجيداً نقدياً، سيجعله مانيفستو تقدمياً مهد الطريق لأفلام البطولة النسائية التي تقوم فيها المرأة بالأدوار التي احتكرها الرجال دوماً مثل Terminator وصولاً لمخرجات بأفلام أكثر نسوية مثل أفلام صوفيا كوبولا.
مشهد من فيلم «Terminator 2»
سينال الفيلم كذلك تحقيراً أبدياً باعتبار ما سماه الصحفي جون ليو في التايم بالأنوثة السامة التي تظهر الرجال بصورة كاريكاتورية غير حقيقية ينالون التأديب من نساء ساذجات.
ظهر «Thelma & Louise» كفيلم أسبق بكثير من زمنه، كصدمة فنية على صناعة اعتادت قوالب أدوارها ونمطية قصصها، لكن عنصر الخلود الأكثر فرادة في الحكاية أن بطلاتها عاديات، سيدتان من أركنساس، بطلات غير نسويات أو فاعلات، إنما تعرضن للبطولة قهراً مثلما تعرضن للإساءة والانتهاك قهراً.
ما يجعل ثيلما ولويز أقرب لوجدان كل امرأة شاهدت الحكاية هو أنهما تشبهان ملايين النساء، نساء يعشن في حصن حكايات آمنة حتى يأتي حدث مروع يسلبهن الأمان للأبد، حتى يمررن بتكساس الخاصة بهن.
لم يدُر «Thelma & Louise» حول النسوية كمشكلة تحتاج إلى حل وتحليل، إنما عبر بإخلاص عن الغضب كعاطفة مختزنة بدواخل ملايين النساء لم يجدن الفرصة للخروج من تكساس أو تجاربهن المروعة أبداً، أو حتى الاعتراف بوجودها من الأساس.
كان الغضب جوهر الفيلم وعنوانه، لم تدرك ثيلما ولويز هل سينجح الغضب والثورة وحدهما في تعبيد الطريق نحو عالم جديد أم لا؟ لكنهما أيقنتا أن القفز من مكان شاهق بسيارة ومحاولة مطاولة الشمس في رمزية يائسة مثل إيكاروس هو حل أخف وطأة من العودة إلى حلم أمريكي يحكمه الرجال بقوانين مصممة لتصديق الجاني وتكذيب الضحايا.
كلما ظن الجميع أن كادر النهاية مبالغاً وجنونياً، تظهر حركات بعد الفيلم بعقود مثل metoo تكشف انحيازات مروعة داخل صناعة السينما، تجعل النساء غير آمنات حتى لو كن نجمات في استوديوهات هوليوودية عملاقة، وليس فتاتين مجهولتين في الجنوب الأمريكي.
تمنح النهاية المفتوحة الفيلم قدرة استعادية مذهلة من أجيال تلته، ومرت باللحظة نفسها، الرغبة الجمالية في الهروب من عالم ذكوري عنيف بسلطاته وأدواته، حتى لو كان الهروب على طريقة ثيلما ولويز. أصالة تفني ذاتها بصدق بدلاً من الحياة بزيف في عالم يفرض عليها قوالبه وأدواره.